ما زالت الفرقة العامة بين الأشقاء الليبيين، كما يصفها الإعلام الدولي والمحلي، محاولا جعل الوصف معبّرا وجامعا لكامل القضية، وفي واقع الحال تتجلى القضية في أبعاد أكثر من مجرد التفرقة وتكاد تكون حالة من الانفصال بين مكوّنات الشعب الليبي باختلافهم وتباينهم
بدأ الأمر باندلاع حرب أهلية عام 2014، تحت مسمى فجر ليبيا ،ردا على إعلان كتائب عسكرية رفضها استمرار المؤتمر الوطني العام كجسم تشريعي؛ لتستمر تلك الحرب ما مدته أكثر من خمسين يوما قتالابالأسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة داخل الأحياء السكنية بضواحي العاصمة، وبالتوازي هناك في الشرق الليبي الذي استبقت الاحداث فيه بإطلاق حملةعسكرية واسعةتحت اسم: عملية الكرامة في مدينة بنغازي،التي أشرف على قيادتها شخصيات بارزة سابقا في القوات المسلحة الليبية بدافع استرداد هيبة المؤسسة العسكرية وإقامة الدولة التي فقدت ملامحها،في ظل الصراع المسلح،والتي أطلقها مجموعةمن العسكريين،بعدمطالبةعامةالشعب بها في مايو من سنة 2014،واعتبار الإعلان الدستوري مجمدا،يزداد الأمر تشعّبا اذ انطلق البرلمان الليبي المنتخب في عقد أولى جلساته،واتخذ من طبرق مقرًا له بعد أن تعذّر عليه الإقامة في بنغازي،التي تدور فيها حرب بين عسكريين نظاميين مدعومين بمقاتلين مدنيين من جهة،وفصائل مسلحة بينهم متطرفون من جهة أخرى؛أطلقوا على أنفسهم لاحقا مجلس شورى ثوار بنغازي
لم تكن تلك سوى صافّرة الانطلاق في صراع البقاء الليبي،وبعد أن حكمت الدائرة الدستورية بعدم شرعية البرلمان، وهو ما أتاح للمؤتمر الوطني العام المبرر والمسوّغ القانوني اللازم للاستمرار؛ ليصبح هناك جسمان تشريعيان، وبناء على الإعلان الدستوري الصادر في عام 2011إبّان سقوط نظام حكم معمر القذافي؛ فإن كلا الجسمين شرعي يمنحه القانون حق البقاء
المجتمع الدولي اضطرّ للتدخل بعد أن حثه الأمين العام للأمم المتحدة وتوالي المبعوثين الأمميين إلى ليبيا من اللبناني طارق متري، الذي حذّر بشكل واضح من بوادر لصراع مسلح قُبيل انطلاق عملية عسكرية ضد المؤتمر الوطني العام، وبرناردينو ليون الذي خاض مع أعضاء لجنة الحوار جولات امتدت أربعة عشر شهرا تمخض عنها اتفاق سياسي،أشرف على توقيعه مبعوث جديد وهو الألماني مارتن كوبلر تلاه لبناني آخر، وهو غسان سلامة الذي لايزال يمارس مهام عمله حتى الآن،وشكلت حكومة الوفاق المدعومة من مجلس الأمن؛ إلا أنها في النهاية اختارت الاستقرار في العاصمة دخولا عن طريق البحر
ظنّ الليبيون أن الخلاص سيكون على يد الوفاق،التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات، وهو الاتفاق السياسي الذي يحكم العملية السياسية حاليا في ليبيا،في ظل ارتفاع أسعار صرف العملة الأجنبية، وتفاقم أزمة السيولة المصرفية وتدهور الوضع الأمني
ازداد تصاعد وتيرة الأحداث بإقامة تنظيم الدولة إمارته بمدينة سرت التي تبعد نحو600 كيلومتر شرق العاصمة طرابلس، لم يكن الأمر مفاجئًا،فالتيار الإسلامي المتطرف قد اشتد عوده داخل ليبيا خصوصا مع وجود بيئة حاضنة في بعض المدن الليبية
تم دحر التنظيم وانهارت إمارته في ليبيا عام 2016 تحت عملية قادها تشكيل عسكري تابعلحكومة الوفاق سمي بالبنيان المرصوص،وهم عناصر من عسكريين نظاميين ومجموعات مسلحة قاتلت في عملية فجر ليبيا وآخرون، حظيت العملية بدعم دولي كبير،وكانت بالتزامن مع عمليات انسحاب التنظيم من مدن شرق ليبيا
تطور المشهد ليصبح الصراع سياسيا عسكريا، قادته حكومة مؤقتة موازية امتدت سلطة نفوذها في المنطقة الشرقية من جهة، وحكومة الوفاق من جهة أخرى،وانطلق مجلس النواب الليبي في دعم الحكومة الموازية،واتجهت المؤسسات الليبية السيادية للانقسام بين جهتين تشريعيتين من مجلس النواب في الشرق والأعلى للدولة في الغرب
.أدى تناحر الدول العظمى داخل ليبيا وتعارض المصالح فيما بينها إلى فشل في تقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية
فبدأت المحادثات في باريس الفرنسية مطلع عام 2018،كان الأول من نوعه إذ ضم رئيس حكومة الوفاق الوطنيورئيس المجلس الأعلى للدولة ممثلين عن الغرب الليبي، ويقابلهما رئيس مجلس النواب والقائد العام للجيش في الشرق.
لم تكن مخرجات باريس إلا اتفاقات شفهية،ولم تنتج شيئا ملموسا،وقد حُدّد شهر ديسمبر من العام ذاته؛ موعدا لإجراء الانتخابات الرئاسية دونما أي ضمانات وأرضية مشتركة للانطلاق منها،وهو مالم يحصل لتكون فرنسا قد فشلت في أن تكون مفتاحا لحل الأزمة الليبي
النزيلة الإيطالية حاولت أن تكسب الوقت، وتُقدم على اجتماع آخر،أملا أن يكون منقذا وتنجز ما عجزت عنه فرنسا،فعلى شرف مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامةوبمدينة باليرمو؛ التقى مع الفرقاء الليبيون من جديد، ليعلن سلامة أن الانتخابات الليبية ستُجرى بعد انعقاد المؤتمر الوطني الجامع،وستكون مخرجاته على طاولة مجلس الأمن، الذي سيقدم بدوره مقترحا لآلية سير الانتخابات، وفي ذلك الاجتماع اتضح للجميع أن مندوب الأمم المتحدة يملك من سلطة القرار أكثر من أي طرف يدّعي أنه مسيطر
بين اجتماع باريس وباليرمو شهدت العاصمة الليبية أحداثا دموية غير واضحة التوجهات؛ليخوض اللواء السابع مشاة هجوما عسكريا على العاصمة لغرض تحريرها من ميليشيات المال العام على حد تعبيره
وتستمرالمعارك قرابة الشهر والنصف ليستجيب اللواء لضغط البعثة الأممية وتتوقف العمليات
اليوم وفي الجنوب الليبي الذي حُرم لسنوات أقل مقومات الحياة؛ حرب طاحنة زجت فيها أبعاد أثنية، وتطالب جهات اجتماعية من قبائل التبو بالحماية الدولية لما أسموه تطهيرا عرقيا يستهدف مكونهم، وعلى إثر هذا انسحب برلمانيون ووزراء في المنطقة الشرقية يمثلون مكون التبو، واتهموا قادة الكرامة بالعنصرية تجاه مكونهم الثقافي ذي الأجنحة العسكرية،الذي كان حليفا لقوات الكرامة لسنوات وقاتلوا معهم في مناسبات عدة
امتدت نفوذ الجيش التابع للبرلمان بالمنطقة الشرقية ليطال نقاط مؤثرة في الجنوب الليبي، ويبسط سيطرته على كبرى المدن في إقليم فزان التاريخ، وكردة فعل من السراج كلّف القيادي البارز في قبائل الطوارق علي كنه؛ آمرًا لمنطقة سبها العسكرية، إلا أن نفوذ الطوارق الموالين للسراج بدأت التقلّص بعد إعلان كتائب تسيطر على حقل الشرارة موالاتها لقوات الكرامة، ويبقى موقف المجالس الاجتماعية لقبائل الطوارق في عمومه يشوبه الغموض، حيث جرى استهداف مكون التبو على حد قولهم بسلاح الجو وفرض حظر للطيران المدني،كما استُهدف مهبط نفطي أثناء هبوط طائرة مدنيّة,وأُجبرت طائرة مدنية أخرى على الهبوط، وهو ما جعل السراج يصدر بيانا وصف فيه هذا الاستهداف بأنه يرقى إلى العمل الإرهابي
لا زال الاقتتال بالجنوب الليبي مستمر وسط موض وترقب من الجميع خصوصا بعد انسحاب القوات التي تمثل الكرامة وسط تساؤلات من السكان وارتفاع نسبة الجريمة وعودة الانفلات الامني للمنطقة
ما زالت خارطة الصراع الليبي تتغيّر ومن الممكن وصف الحالة بالمعقّدة،وقد يكون المستفيد من استمرار الأزمة هو اللاعب الرئيس فيها، وبالنسبةللأجسام المنقسمة؛فهي لا تمثل إلا إحدى العقد المفتعلة لاستدامة الصراع، ووحده المتضرر مواطن ذو دخل يقدر بمائتي دولار،ويعاني أطفاله مختلف الأمراض، ويعجز عن نيل تعليم ذي جودةأو بناء سكن يأوي من فقدوا بيوتهم،من دون وجه حق،في بلد لم يعرف منذ تسع سنوات سوى صوت الرصاصة ورائحة الدم وضعف الحيلة