بينما تقبع طرابلس الكبرى عاصمة ليبيا في متاهة الحرب والتهجير والنزوح، وتعاني بقية المدن الممتدة في ربوعها ضعف الخدمات وانعدام الأمن وتدهور الأحوال الاقتصادية، ها هي مشقّة أخرى تضاف إلى معاناة سكان هذه المدينة بعد دخول فيروس كورونا وتسجيل أوّل حالة إصابة داخل العاصمة.
الحرب والأثر على الأرض
منذ بدء الحرب بطرابلس في الرابع من أبريل 2019 وبدء العمليات العسكرية حولها، عانت مناطق ضواحي طرابلس من موجة نزوح تجاوزت المئة ألف نازح حسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، وتضررت البنى التحتية إثر القصف المتواصل على الأحياء والمناطق الآهلة بالسكان. ضعف الأداء المؤسساتي كان واضحا أثناء تقديم الدعم الإنساني للنازحين والمهجرين، ومع ارتفاع الأعداد أصبحت الأوضاع أكثر تعقيدا؛ استهداف المصالح الحكومية والمستشفيات العامة الكبرى كمستشفى طرابلس الطبي، ومستشفى الخضراء، جعل تقديم الخدمات الصحية يزداد انحدارا وتراجعا.
وبعد إعلان منظمة الصحة العالمية أن فيروس Covid 19 جائحة عالمية؛ بدأت حكومة الوفاق التجهّز قدر المستطاع للمحافظة على الاستقرار الصحي وعدم تسجيل إصابات؛ بتطبيق إجراءات الفحوصات وقضاء الفترة المخصصة للحجر الصحي للعائدين من الخارج، والعمل على تجهيز أماكن العزل الصحي، لكن الأمر كان شبه مستحيل لعدّة أسباب، أبرزها: عدم الإدراك العالمي بماهية الوباء وتطور فترة الحضانة.
أصبح الوضع حرجا ليضاف الوباء إلى قائمة التحديات التي تواجه الليبيين كافّة بقلّة إمكانيات وتجهيزات، وحرب تدور طواحينها على أطراف العاصمة.
الأطباء بين العمل الدؤوب والوقائع
ضياء محمد ـ عضو فرقة الاستجابة السريعة
ضياء هو أحد الأطباء العاملين بمركز الاستجابة السريعة لفيروس كورونا بجهاز الطب العسكري التابع لوزارة الصحة بحكومة الوفاق، حدثني ضياء عن آلية العمل التي ينتهجونها في عملهم:
“خصصت وزارة الصحة الرقم 1448 لجهاز الطب العسكري العامل على تصفية الحالات من خلال تتبع الأعراض التي يقوم المريض بسردها ومقارنتها بالبروتوكول المتبّع من منظمة الصحة العالمية، لمعرفة إذا ما كان المصاب حقق النقاط التي تجعله يرتقي لمستوى الإصابة؛ أم أنها مجرد شكوك. يتكون كادر المركز من 40 طبيبًا حيث نعمل سويا على استقبال مكالمات الناس التي تراودهم شكوك في الإصابة بالفيروس، وتُوجه الحالات التي حققت عدد نقاط مرتفعًا إلى النموذج الإلكتروني الخاص بها ومنه إلى الأطباء الإخصائيين الموجودين معنا وهم 20 إخصائي أمراض صدرية وتنفسيّة، ومن هناك ينطلق العمل على تتبع الحالة من الفرق المختصة بالرصد والتقصّي وينقل الأمر إلى المركز الوطني لمكافحة الأمراض”
ويتابع ضياء سرد الصعوبات التي تواجه القطاع الصحي الليبي في مواجهة الوباء:
“عملت الحكومة مع وزارة الصحة بشكل مكثف لافتتاح مراكز الحجر الصحي وسيارات الإسعاف وكل ما يلزم لمجابهة الوباء، ولكن يبقى التحدّي الحقيقي إذا ما كانت هذه التجهيزات كافية لما قد يأتي لاحقا من تزايد أعداد الحالات وتفاقم الوضع، العالم أجمع عجز أمام هذا الوباء ولا قدرة لاستقراء ما قد يحدث مستقبلا”
وختم ضياء حديثه في وصف أداء المواطنين في هذه الأزمة:
“من خلال تعاملي المباشر مع الحالات لاحظت وعيًا كبيرًا من عامة الناس وخصوصا الحالات التي تأكدت إصاباتها، وذلك بالالتزام بالحجر الصحّي والمتابعة مع المختصّين؛ مما سهّل المهمة على الكوادر الطبية بشدّة، وهو ما نعوّل عليه كأطباء لتجاوز هذه المحنة”
الكوادر الشابة ودورها الفعّال
رأفة الشريف طالبة طب بشري ومتطوعة بالغرفة المركزية لمكافحة وباء كورونا
رأفة إحدى طالبات كليّة الطب البشري المتطوعات بالغرفة المركزية لمكافحة فيروس كورونا، وهي أيضا تعتبر إحدى الشابات المؤثرات في الأوساط الشبابية لانخراطها في نشاطات المجتمع المدني، شاركتني رأفة التحديات التي تواجه الشباب بدءا بالحرب وانتقالا للوباء:
“الحرب وضعتنا داخل تحدٍّ نفسي شديد منذ انطلاقها، العيش داخل دائرة الحرب صنعت منّا أناسا متجمدي الشعور وفاقدين للتركيز حتى حلّ علينا الوباء وازدادت الأوضاع النفسية سوءًا، وبفرض الحجر المنزلي وجدنا أنفسنا قد فقدنا جزءًا آخر من حياتنا، وأصبح الوضع يتمحور حول النجاة فقط. حاولت خلال هذه الفترة الاستفادة من أوقات الفراغ المتاحة لتطوير نفسي، والعمل على تحسين قدراتي؛ لما بعد الحرب والحجر سويا، بأول خطوة كسفيرة معتمدة من المعهد الدولي للتنمية المستدامة والعمل على استحداث هذه الأهداف داخل ليبيا، وما أحوجنا إلى هذه الأهداف لإعادة الإعمار والتنمية والتطوير”
رأفة الشريف– عضو الغرفة المركزية لمكافحة وباء كورونا
وختمت رأفة حديثها:
“لقد رأينا بأم أعيننا كيف استطاع الفيروس الإضرار بدول عظمى تملك من التجهيزات ما يفوق ليبيا عشرات المرات. ليبيا جزء من العالم تؤثّر وتتأثّر بما يحدث من حولها وأملنا الوحيد؛ هو التعويل على التوعية لجعل الأزمة قابلة للسيطرة من قبل الكوادر الطبية وألا نصل إلى نقطة الانهيار التي لا نملك لها أيّ استعدادات، الحرب أنهكتنا على مستوى عالٍ وليس بالإمكان المراهنة على الاستجابة الطبية”
الاقتصاد: إغلاق النفط هل يجتاز ضرره الوباء؟
بهاء جابة استشاري في تطوير الأعمال
بهاء هو أحد الخبراء الاقتصاديين المهتمين بشكل خاص بريادة الأعمال وسوق العمل الليبي، حدثني عن أضرار الحرب الدائرة في طرابلس اقتصاديا وإغلاق النفط مع دخول الوباء الذي سيحد من النشاط الاقتصادي الليبي:
“عايشت ليبيا وضعا اقتصاديا صعبا منذ اندلاع الثورة عام2011 ومن ثم تعافى الاقتصاد الليبي بعض الشيء بين عامي2012 – 2013 ليعود للانتكاس بشدّة عام2014 بعد عام من إغلاق الموانئ النفطية التي هي مصدر الدخل الوحيد لليبيا -حيث يمثل قطاع النفط والغاز 94.6% من الإيرادات- واندلاع الحرب في ذات العام لتكون العواقب ارتفاع أسعار صرف العملة الصعبة، الأمر الذي انعكس على معيشة المواطنين، اليوم نعيد السيناريو نفسه بعد التعافي الطفيف الذي حدث بين نهاية عام 2018 ومطلع 2019.
يناير 2020 كان هو القشّة التي قصمت ظهر الاقتصاد الليبي بإغلاق الموانئ النفطية ومع انطلاق الحرب في أطراف طرابلس كانت كل المؤشرات قبلها تذهب إلى انكماش اقتصادي بنسبة 5.5% حسب توقعات البنك الدولي بدلا عن النمو الاقتصادي الذي كان من المتوقع حدوثه، وأضاف البنك في تقريره أن الضغط على المالية العامة ازداد بسبب ارتفاع المصروفات فيما يتعلق بفاتورة المرتبات التي زادت بقيمة 29.2 مليار دينار.”
وأضاف بهاء بشأن تزامن هذا الضرر مع ضرر الجائحة العالمية على العاملين في القطاع الخاص وأصحاب الحرف:
“القطاع الخاص الليبي تكالبت عليه المصاعب في هذه الظروف من عدم استقرار سعر صرف العملة الأجنبية؛ نتيجة الإيقاف الحاصل للموانئ النفطية الذي أدى إلى التعطل شبه التام لمعظمه بعد قدوم الجائحة، فالشركات والمصانع ورواد الأعمال والتجار خسائرهم
تتضاعف يوميًا، في آخر تقديرات نشرتها شركة ألتاي الاستشارية أن القطاع الخاص الليبي يوظف نحو 14% من القوى العاملة الليبية بما يقدر بـ 75 ألف شخص في الشركات و120 ألفًا في أعمال حرّة أخرى جميعهم الآن واقعون تحت وطأة الإقفال العام، ورغم المحاولة الجادة من المجلس الرئاسي باتخاذ إجراءين يفيد أحدهما بإعفاء ممولي الضرائب من رفع غرامات التأخير وإعفاء المنتفعين بالعقارات التجارية المملوكة للدولة من أداء حق الانتفاع ابتداء من تاريخ صدور القرار، إلا أن البنك الدولي حذر من ثلاثة مخاطر تواجه ليبيا في حال استمرار تعطّل إنتاج وتصدير النفط وتفشي الوباء لوقت أطول في أوروبا، وهي الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة وتعطيل العرض والطلب، وشدد على ضرورة التوصّل إلى حل سياسي لتذليل هذه الصعاب.”
الحجر الصحي وانعكاساته النفسية
يسرى عمار طبيبة ومعالجة نفسية
تحدثت مع يسرى عما يخلفه الحجر الصحي نفسيًّا على العالم عامة وليبيا خاصّة وكيف ستكون استقراءات ما بعد انحسار الوباء:
“في ظل التسارع الحاصل عالميا على شتَى الصعد؛ أتوقّع أن الصحة النفسية ستكون أولوية قصوى بسبب تأثر العديد حول العالم بأمر الحجر الصحي. فقدان الوظائف أو بسبب فقد أسلوب الحياة عرّض الكثيرين للتوتر والاكتئاب، قد لا أبالغ إن قلت إنّ الاكتئاب سيكون هو الوباء القادم في حال استمرار الحجر الصحي لوقت أطول”
وتضيف يسرى في الحالة الليبية على وجه التخصيص:
“أتوقع ان تزداد وتيرة التوتر لدى المواطنين وترتفع حالات الإصابة بالأمراض النفسية، ليبيا بلد يمر بحالة حرب وتوتّر مستمر بسبب عدم الاستقرار وإضافة الحجر الصحي ما هي إلا مضاعفة لمقدار القلق، ولكن المؤلم أن هذه الإصابات ستبقى تحت الستار لضعف الوعي بالصحة النفسية وقلّة المختصّين في المجال”
واختتمت يسرى الحديث بنصائح نفسيّة ثمينة:
“التمارين التنفسيّة ورياضة التأمل كلاهما ذو تأثير جميل لإعادة التوازن للجسم وتقليل التوتر وهي سهلة التطبيق ويمكن تأديتها في أي مكان، والأهم من ذلك إدراكنا بأننا نعيش سويا على هذا الكوكب كجنس بشري متكامل، فسننجو جميعا بدعم بعضنا بعضًا وتمني الحب والسلام للجميع.”
انتقلت الحرب خارج العاصمة ولكنها لم تنته، الوباء مازال في بدايته وتصريحات منظمة الصحة العالمية تفيد أن ليبيا لم تشهد الأسوء بعد ومن المتوقّع ان تمر بموجة الوباء في نوفمبر القادم، فهل نرى تغليبا لمصلحة الوطن والمواطن على صوت المدافع؟ أم سيستمر حمام الدم ويطال الجميع.